النسخ في اللغة
النسخ لغة يأتي بمعنى الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، أي أزاله. أو بمعنى النقل، يقال: نسخت الكتاب، أي نقلته، كما في بعض المعاجم1.
وهل هو مشترك بين المعنيين؟ وحقيقة فيهما؟ أو حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر؟ أقوال، والبحث فيه موكول إلى اللغة، ولا يهمنا المعنى اللغوي هنا كثيرا.
النسخ في الاصطلاح الشرعي
وأما اصطلاحا فقد اختلفت كلمات العلماء فيه
فقال شيخ الطائفة: إن استعمال هذه اللفظة في الشريعة على خلاف موضوع اللغة، وإن كان بينهما تشبيها. ووجه التشبيه أن النص إذا دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا بمنزلة المزيل لذلك الحكم لأنه لولاه لكان ثابتا2.
ولعله يريد من قوله "على خلاف موضوع اللغة" هو أن النسخ في الحقيقة دفع لا رفع، فالنسخ حينئذ ليس مزيلا حقيقة إلا باعتبار ما قاله من التشبيه.
وعن الفخر الرازي: أن الناسخ هو اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول.
وعن الغزالي: هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه3.
وقد اورد على الرازي والغزالي بأن ذلك حد للناسخ لا للنسخ.
وأجيب بأن النسخ كما يطلق على الرفع كذلك يطلق على ما يدل عليه.
وكيف كان، فلا خفاء فيما أرادوه من النسخ، وإن كانت ألفاظهم قاصرة في بيان حده، وهو: رفع الحكم الثابت على وجه لولاه لكان ثابتا. وإذا جاء الناسخ رفعه من حينه، وهذا بخلاف التخصيص، فإنه يخرج الخاص من تحت العام من حين صدور العام. نعم، قد نقل عن بعض الأصحاب إطلاق النسخ على التخصيص أيضا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
إمكان النسخ
ثم إن أقوى دليل على إمكان النسخ بالمعنى المذكور هو وقوعه شرعا، وفي القرآن آيات ناسخة لأحكام ثابتة بآيات أخرى، وآيات أخرى قد ادعي أيضا النسخ فيها، سوف يأتي الحديث عنها بالتفصيل عن قريب إن شاء الله.
ولكن بعض فرق اليهود قد ادعت استحالة النسخ استنادا إلى أنه يستلزم أن يكون الشئ الواحد حسنا وقبيحا في آن واحد، لأن ثبوت حكم إنما يكون عن مصلحة فيه، فإذا نسخ فإنما ينسخ لمفسدة فيه، فاجتمع فيه الصلاح والفساد في آن واحد.
وأجيب عنه بأن الحسن والقبح في الأشياء ليسا ذاتيين دائما، بل ربما كانا بالوجوه والاعتبارات، فيكون الشئ الواحد ذا صلاح في زمان وقبيحا وذا فساد في آخر، وذلك مثل شرب الأدوية وأكل الأغذية الذي قد يكون فيه مصلحة في زمان ومفسدة في آخر، وموارد النسخ من هذا القبيل.
واستدل المحيلون للنسخ أيضا بأن إزالة الحكم الثابت يستلزم البداء الناشئ عن الجهل، كما يشاهد في العباد الذين ربما يرون في بعض الأشياء مصلحة فيأمرون به، ثم يرون أنهم اشتبهوا وأنه كان فيه مفسدة فينهون وينسخون. وأما الباري تعالى فلا يتصور فيه البداء لأنه بكل شئ عليم.
وأجيب بأن النسخ إذا كان من الله فليس رفعا بل دفع، وليس بداء بل إبداء منه تعالى، بأنه قد انقضى أمد حكم كان يظهره الله على حد الدوام لمصلحة يراها جل جلاله.
هذا بالإضافة إلى وقوع النسخ في العهدين، حسب ما جاء في بعض الكتب العلمية4.
أقسام النسخ ومحل البحث منها
هذا وقد ذكروا للنسخ أقساما ثلاثة، فإنه
1- تارة يقع على التلاوة للآيات.
2- واخرى عليها وعلى الحكم الذي دلت عليه.
3- وثالثة يقع على الحكم فقط، وهذا هو المهم في بحثنا هنا. فلنذكر الآيات التي ادعي نسخها، ونذكر ما قيل أو ما ينبغي أن يقال فيها.
وقبل ذلك لا بأس بالإشارة إلى أمر مهم، وهو أن الاستثناء أو التخصيص أو الغاية إذا حصلت فليست نسخا، ولعل الأمر قد اشتبه على من أكثر في موارد النسخ، حيث ذكر موارد لا تدخل تحت النسخ، أو لعله جرى في ذلك على اصطلاح خاص عنده غير مشهور عندنا.
ولذا فنحن سوف لا نتعرض لتلك الموارد، بل نكتفي بالتحقيق في الموارد العشرين التي ذكرها في الإتقان على أنها من موارد النسخ، وتمييز ما يدخل في النسخ منها من غيره، وقد نظمها السيوطي في أبيات له مراعيا في ذلك ترتيب السور القرآنية، وهي:
وقد أكثر الناس في المنسوخ من عدد وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر
وهاك تحرير آي لا مزيد لها عشرين حررها الحذاق والكبر
آي التوجه حيث المرء كان وأن يوصي لأهليه عند الموت محتضر
وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث وفدية لمطيق الصوم مشتهر
وحق تقواه فيما صح من أثر وفي الحرام قتال للألى كفروا
والاعتداد بحول مع وصيتها وأن يدان حديث النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك اولي كفر وإشهادهم والصبر والنفر
ومنع عقد لزان أو لزانية وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءت وآية نجواه كذاك قيام الليل مستطر
وزيد آية الاستئذان من ملكت وآية القسمة الفضلى لمن حضروا5
ولتفصيل الكلام في هذه الموارد وإحقاق الحق فيها نفيا أو إثباتا نقول: آية التوجه:
1- قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾6.
قال السيوطي في الإتقان: إنها - على رأي ابن عباس - منسوخة بقوله تعالى ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾7.
وعن تفسير النعماني8 - الذي نقله المجلسي9 ولخصه السيد علم الهدى في رسالة المحكم والمتشابه - عن علي عليه السلام أنه كان رسول الله صلى الله عليه وآله في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدس جميع أيام بقائه بمكة، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر عيرته اليهود وقالوا: أنت تابع لقبلتنا، فأحزن رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك منهم، فأنزل الله عليه - وهو يقلب وجهه في السماء وينتظر الأمر - ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾10.
وقال الزرقاني: إنه لا تعارض بين الآيتين حتى تكون إحداهما نسخا، فإن معنى قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ...الخ﴾ أن الآفاق كلها لله، وليس الله في مكان خاص منها، وليس له جهة معينة فيها، وإذا فله أن يأمر عباده باستقبال ما يشاء من الجهات في الصلاة، وله أن يحولهم من جهة إلى جهة11.
وقريب منه ما في تفسير بعض الأعاظم، بل كلامه أتى من كلام الزرقاني، حيث قال في تفسير قوله تعالى ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾12:
أما اعتراضهم فهو أن التحول عن قبلة شرعها الله سبحانه للماضين من أنبيائه إلى بيت ما كان به شئ من هذا الشرف الذاتي ما وجهه؟ فإن كان بأمر من الله فإن الله هو الذي جعل بيت المقدس قبلة، فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه؟ واليهود ما كانت تعتقد النسخ. وإن كان بغير أمر الله ففيه الانحراف عن مستقيم الصراط، والخروج من الهداية إلى الضلال، وهو تعالى وإن لم يذكر في كلامه هذا الاعتراض إلا أن ما أجاب به يلوح ذلك.
وأما الجواب فهو: أن جعل بيت من البيوت كالكعبة أو بناء من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس أو الحجر الواقع فيه قبلة ليس لاقتضاء ذاتي منه، يستحيل التعدي عنه، أو عدم إجابة اقتضائه، حتى يكون بيت المقدس في كونه قبلة لا يتغير حكمه ولا يجوز إلغاؤه، بل جميع الأجسام والأبنية وجميع الجهات التي يمكن أن يتوجه إليها الإنسان في أنها لا تقتضي حكما ولا تستوجب تشريعا على السواء، وكلها لله يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء13.
وعليه، فيمكن القول: إن قوله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ ليس فيه إنشاء حكم مستحب أو واجب، بل أراد الله تعالى أن يدفع إشكالا أوردوه على تحويل القبلة، فهو يريد أن يقول: إن جميع الأرض شرقها وغربها عنده تعالى سيان، وله أن يأمر الناس أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فلا إشكال.
ولكن يبقى في المقام سؤال هو: أنه كيف إذا يصح تمسك الأئمة عليهم السلام بقوله تعالى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾ على جواز الصلاة إلى غير القبلة، وذلك كما في الرواية المروية عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابته، قال: يسجد حيث توجهت، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يصلي على ناقته النافلة وهو مستقبل المدينة، يقول ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾14. فهذا الحديث يدل بظاهره على أن الآية في مقام إنشاء الحكم، حيث استدل بها الإمام، فكيف يصح ما تقدم من أنها ليست في مقام إنشاء الحكم؟
وأجيب بأنه لا تنافي بين ما قلناه وبين استدلال الإمام عليه السلام بالآية على جواز السجدة حيث توجهت، فإن ذكره عليه السلام للآية لعله لدفع توهم المستشكل، أي ليفهم أن جميع الجهات هي لله لا للاستدلال بها على الحكم الشرعي. إن الصلاة إذا كانت على الناقة إلى غير القبلة كانت صحيحة، لأن النافلة يشترط فيها فقط التوجه لله، والجهات كلها لله، بخلاف الفريضة فإنها يجب فيها التوجه إلى الكعبة بإجماع المسلمين، بل يستفاد وجوب ذلك من قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ فإن وجوب استقبال الكعبة في الصلاة لا يتصور إلا إذا كانت الصلاة واجبة.
هذا بالإضافة إلى ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من اختصاص قوله تعالى ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ بالفريضة، وذلك مثل ما روي بسند صحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وآله في الفريضة "فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره"...الحديث15.
وهكذا، فإن النتيجة تكون: أنه ليس بين الآيات تناف لتكون إحداهما ناسخة للأخرى.